المظلومون في التاريخ
المظلومون في التاريخ
كتاب قيم للدكتور المرحوم شاكر مصطفى
إنّ عرض كتاب ٍ ما ، هو دعوة ٌ إلى قراءته ، بعد أخذ فكرة ٍ مبسطة عنه .
ولأنّ الاهتمامات الثقافية أصبحت الآن ترفا ً ، لا يحبّذه الكثيرون ، في ظلّ طغيان الهمّ السياسي ،والأحداث المتلاحقة .
لفت انتباهي كتاب (( المظلومون في التاريخ )) للدكتور المرحوم شاكر مصطفى
فأحببت ُ أن يكون حديثي عن هذا الكتاب الممتع والطريف ، الذي مزج فيه المؤلف بين التاريخ والأدب
لأن الحديث حديث ٌ تاريخي ، ولكنّ اللغة التي استخدمها الكاتب لغة ٌ أدبية رفيعة المستوى ، تكاد ترقى أحيانا ً إلى المستوى الشعري ! .
الدكتور المرحوم شاكر مصطفى :
دكتور في التاريخ، وأديب من القطر العربي السوري
تقلّد منصب عميد كلية التاريخ بجامعة دمشق حتى وفاته عام ؟؟198م
من كتبه المنشورة :
بيني وبينك
حضارة الطين
في ركاب الشيطان
المظلومون في التاريخ
وكان يكتب باستمرار في مجلة العربي الكويتية ، وقد جُمعت بعضُ مقالاته في كتاب العربي الفصلي
الكتاب رقم 25 عام 1989 تحت عنوان : تاريخنا وبقايا صور .
**********
كتاب المظلومون في التاريخ : من منشورات الدار العلمية للنشر – دمشق حلبوني
وقد ُنشر الكتاب عام 1995
يقع الكتاب في 175 صفحة من القطع الصغير .
يبدو من عنوان الكتاب أنه يبحث في الجانب الآخر من تاريخ بعض الشخصيات التي يتحدث ُ عنها .
ومعظم الشخصيات الواردة فيه هي من المشاهير نسبيا ً .
والمؤلف أحيانا ً يتناول تاريخ شعب بأكمله حين يتحدث عن الهنود الحمر مثلا ً أو عن الغجر .
******************
خطة الكتاب
يبدأ الكاتب حديثه عن الشخصية المعنية بذكر الجانب المعروف والمشهور ، والمتداول على ألسنة الناس ، أو الجانب المذكور في بعض الكتب التاريخية . ثمّ يستدرك ليذكر َ لنا حقائق لم تكن معروفة للكثيرين منا ..
ويثبت لنا بعد ذلك أنّ هذا الإنسان قد ظُلمَ تاريخيا ً ، وشوهتْ حقيقته بفعل ظروف معينة ، يعرفها كل من أدرك حقيقة التاريخ ، ومن الذي يكتب التاريخ .
التاريخ :يجب أن ُيكتب كما كان ، لا كما ينبغي أن يكون ، ولا كما نتمنى أنه كان .
التاريخ : أمانة ، وكثيرون ممن جاملوا المنتصر ، زوّروا الحقائق التاريخية ،وخانوا الأمانة ،فوصلنا التاريخُ مشوّها ً .
طبعا ً هذا كلام عام ، والتعميم ُ فيه ظلم ٌ كبير ، ولكن ّ علماء التاريخ يعرفون التفاصيل .
نعود إلى فهرس الكتاب : فنجد أن الكاتب قد تناول الأسماء والموضوعات التالية :
1* الحجاج الظالم .. الحجاج المظلوم .
2* ابن ُجحاف .
3* قسطنطين الأخير .
4* مروان الحمار .
5* دونيا خوانا المجنونة .
6* الرشيد المظلوم .
7* جحا .
8* الأمين المفترى عليه .
9* خليفة لم يسجله التاريخ .
10* المعتمد بن عباد .. الملك السجين .
11* دمعة الأندلس الأخيرة .
12* الحصان المظلوم .
13* بعد انطفاء الأنوار .
14* البطل المطارد .
15* زعموه الحاكم المعتوه ( قره قوش ) .
16* الشعب المظلوم ( الغجر ) .
17* كولومبوس التعيس .
18* المستعصم آخر العباسيين .
19* الحاكم بأمر الله ، بين التأله والجنون .
20* الشعب الذي أُبيد .
21* بيتان العجوز .
22* هتلر .. هل ظلموه ؟ .
23* المبدع المظلوم .
24* كافور الذي شوّهته القصائد .
25* السلطان الأحمر .
26* العرب .. آخر المظلومين .
27* الفلسطيني ..الذي في القاع .
28* تحدي الظلم .
29* وريث ملوك كندة .
كلمة أخيرة .
***********
وهكذا نجد أننا لا نستطيع أن نتناول كل الشخصيات والعناوين المذكورة ،
لذلك سنختار بعضاً منها ... سنختار أشهرها ......
يبدأ الكاتب الصفحة الأولى من الكتاب بكلمة أولى يقول فيها :
أكره ُ الظلم َ والظالمين ..
قلبي ينفجر لكل ظلم ٍ ، ومظلوم .
وبيني وبين العدل حلف ٌ يدخل ُ في تكويني ، ونسيجي الروحي .
ولقد علمني هذا الحلف ُ أن أنظر َ على الدوام إلى الوجه الآخر للتاريخ ، الوجه المطلّ على الجحيم .
وتشقى إذا أنت َ أطللتَ على هذا الوجه الآخر !
إنّ ألوانا ً من الظلم تتراءى لك من كلّ جانب ٍ ، كما لو أنها صورُ المعذبين في جحيم دانتي .
ويحدثونك عن محكمة التاريخ العادلة !! ، وينتظرون منها النصفة ، والميزان !
وينصّبون لها القاضي العجوز الأبيض َ اللحية ِ والشعر ، والقلم ُ في يده ، وعيناه ُ تبصّان كمن يخرق ُ بنظره السماء َ والأرض ...
قلْ إنه أعمى .... وضلال ٌ ما تتوهّمون .
تلك الملفات التي تتراكم لديه ، وتتراكم جبالا ً من الورق ، لن تُفتح َ أبدا ً ، إلا إنْ شئتَ أنت َ ،
أو شئت ُ أنا فتحها ، والنظر َ في الوجه الآخر .. للتاريخ .
الخدعة الكبرى أن تظنَّ بالتاريخ ِ ظنَّ الخير ..
وأن تترك َ الأمر َ إليه ...... إنك َ إذن للخاسر ُ الخاسر .
فما التاريخ ُ إلا الإنسان ُ نفسُه ُ في مرآة ِ ذاته .
وإذ قال شاعرنا العربي القديم : زهير بن أبي سلمى :
والظلم ُ من شيم ِ النفوس ِ فإنْ تجدْ ذا عفة ٍ فلعلة ٍ لا يظلم ُ
وقد قال تعالى : إنّ الإنسانَ لظلوم ٌ كفّار .
ثمّ قال : إنه كان ظلوما ً جهولا .
أتنتظر ُ ممن كان ظلوما ً كفّارا ً جهولا ً، أن يفتح الملفات المغلقة ؟ .
ولو فعل ... فكم ذا يستطيع ُ أن يفتح ؟!
يقول المؤلف : أنا أحبّ التحدي ..
الوجه الآخر المظلم للقمر هو الذي يثيرني لا الوجه المشرق .
الحقيقة الخبيئة هي التي تجتذبني لا الأحكام المستقرة .
المظلومون يدعونني إلى صفوفهم بنداء ٍ غاو ٍ .
الإحساس بالعدل عندي له لهيب ُ السياط في الظهور .
صار أشبه بالمرض .. يذبحني دون سكين .
سوف أفتح ُ ملفّ المظلومين في التاريخ .
ونحن ُ سنختار بعض الشخصيات الواردة في الكتاب ، بحسب الأهمية ، وبما يسمح لنا الوقت .
************
الحجاج الظالم ... الحجاج المظلوم :
الحجاج بن يوسف الثقفي : قل ِ الاسم واسكت ْ ..... سحابة ُ من التوجس والكره تغشى العيون .
الحجاج ... الغارق في الدماء حتى الأذقان ، هو أحد الرموز الدموية للظلم .
كتلة من الجبروت ، والإرهاب الذي يخرق العظم .
ولو قلت ُ بأنّ الحجاج َ مظلوم ٌ في التاريخ ،لانطلق َ ألف ُ لسان ٍ بالاستنكار ، وقيل لي بألف صراخ : إنه شيخ الظالمين، ورئيس منظمة القمع والإرهاب في التاريخ .
دماء ُ ضحاياه نهر ٌ يخنق كل صوت بالرحمة
تجعله الروايات : قصير القامة ، أخفش العينين ، دميم الصورة ، كأنه ابن اللعنة ، أو سليل الفراعنة.
من ذا الذي يجرؤ أن يدافع عن سفاح ٍ كان سيف جلاده أسرع َ من كلمته !! .
ولكنّ الرجل على ما يظهر كان يصدر في أعماله عن قناعة ٍ مطمئنة ٍ بأنه إنما يراعي المصلحة العامة.
كتب له بعض ُ رعيته على المنبر : قلْ تمتعْ بكفرك َ قليلا ً ،إنك َ من أصحاب النار .
فكتب تحتها : قلْ موتوا بغيظكم إنّ الله عليم ٌ بذات الصدور .
لننظر إلى الوجه الآخر للصفحة :
الرجل في الوجه الآخر دنيا مختلفة ، كأنما هي سيرة أخرى ، أو كأنما استعارها الحجاج ُ من غيره ! .
لقد كان الحجاج ُ أحدَ بلغاء العرب ِ وخطبائهم الكبار ، وفي تاريخ ِ الأدب ِ العربي ظلّ كبيرا ً كبيرا ً
لم يكن الحجاج ُ عبدا ً للمادة ... كانت عمالته السنوية 500 ألف درهم ، وقد بقي واليا ً مدة َ عشرين سنة من العراق إلى أقصى خرا سان ، وماذا كان لديه عند موته ؟
كان لديه 300 درهم فقط !
أليس في هذا ما يلفت إلى الوجه الآخر للحجاج ؟ .
ساهم الحجاج ُ بإرسال السرايا ، والقوات بقيادة ابن عمه محمد بن القاسم الثقفي ، وفتحتْ ما يسمى اليوم بالباكستان ، وبنغلادش ، وإسلام أباد .
والرايات التي زرعت من قمة ٍ إلى قمة فيما وراء النهر ، وفتحت الإسلام على الترك ، وجعلتهم الشعب الرابع في تكوين الأمة الإسلامية ...
تلك الرايات التي أطلعتْ أمثال : البخاري ، الفارابي ، البيروني ، ابن سينا ، إنما عقدا الحجاج أولَ من عقدها.... عقدها للقائد قتيبة بن مسلم الباهلي .
بنى الحجاج أربع مدن :
اثنتين في فارس ، واثنتين في سواد العراق ، في موضعٍ بين البصرة والكوفة .
إحداها سماها النيل ، وقد اندثرت ، والثانية مدينة واسط ، وهي ما زالت موجودة حتى الآن .
أيضا ً في سجلّ الحجاج أنه عرّب الدولة َ في المشرق ِ كلّه :
عرّب الدواوين ، وعرّب النقود ، ضرب الدراهم والدنانير العربية.
ضبط َ المكاييل والأوزان خوف َ التطفيف .
أقبل على الموارد الزراعية ، وهي أساس الخراج ، ووفر لها الأيدي العاملة .
استصلح الأراضي الموات .
أقام الجسور على مجاري المياه ، وقدم القروض للمزارعين .
يقول الدكتور شاكر مصطفى :
إذا كان معظم هذه الأعمال قد انقرض ، فإنّ له عملا ً لا تزال الأجيال العربية الإسلامية تدين له به
اليوم ، وإلى الأبد :
رأى الحجاج ُ اللحن يركب الألسنة ، ورأى صحيح الكلام يضطرب ُ ، فانصرف همّه رأسا ً إلى القرآن
الكريم ، كيف يحفظه ؟
فزع الحجاج إلى كاتبه ابن عاصم الليثي ، الذي وضع له إعجام الأحرف وتنقيطها ، كما وضع له الشكل المناسب للحركات .
وكُتبتْ له المصاحف المعتمدة بالإعجام والحركات ، وأرسلت إلى الأمصار ، لتكون مصاحف َ الناس.
بعد كلّ هذا : أليس هذا الظالم الأكبر ، بالمظلوم الأكبر أيضا ً ؟؟
أليستْ أشباحُ قتلاه التي منعتْ صورته الصحيحة عن الناس ، قد استطاعت الانتقام منه ، ومن ظلمه إلى الأبد ؟
ولو وُضعت الدماء في ميزان ، وهذه الأعمال في ميزان .. فأيهما ترجح يا ترى ؟! ......
***********************
هارون الرشيد المظلوم :
إذا جاء ذكر هارون الرشيد، انداحت أمامنا الصور الذهبية ، ورقصت الأحلام وانطلق الخيال وراء خطرات الجواري على المرمر ، وأستار الحرير تهتز وهدير الأعواد والليالي التي لا تحن إلى الشمس.
والرشيد : له الحبّ والكأس والمزهر وللناس منه الصدى المسكر
هذه الصورة (الألف ليلية) هي التي عشعشت في أذهان الناس ، وطلتْ بالذهب عصرَ الرشيد وقصورَه والجواري والمزامير .
هل أفاجئك إذا قلت إنها ليست سوى أسطورة ، وأسطورة كبيرة ؟ .
أبدا ً لم يوجد على عرش الخلافة ذلك الرشيد اللاهي .
بل إن الثلاثي المشهور ( الرشيد ـ بغداد ـ أبو نواس ) إنما هو ثلاثي قصصي ليس غير . ابتكرته وربطت بين جوانبه مخيلات القصاصين ، لقد كانت القاعدة التي أقاموا عليها ملحمة ألف ليلة وليلة .
ـ الرشيد بالذات كان من التعساء في الحياة .
ومن المظلومين بهذه الصورة العابثة الشائعة . هل أقص عليكم حقيقته التاريخية ؟! .
وصل إلى الخلافة سنة 170 هجرية وهو في الثالثة والعشرين من عمره وقد شهد في نفس السنة قتلَ أبيه المهدي ، ثم أخيه الهادي في مؤامرات البلاط وقد قضى السنوات الثماني الأولى من الخلافة يعتمد على البرامكة ، ثم كانت حياته بعضَ الجحيم لأمرين :
الأول: أحسَّ بانحراف ِ البرامكة عنه وتدبير ِهم ضده فأقبل يواجه عملا ً بعمل ٍ ، وتدبيراً بتدبير .
كان يقضي الليالي في التفكر والتدبر حتى فتكَ بهم قبل فتكهم به .
وفي سبيل ذلك هجر بغداد ، ومضى إلى الحيرة ثم إلى الشمال ِ من بغداد " القاطول " ثمّ أقام في الرقة واتخذها مسكنا ً ومستقرا ً له وعاصمة .
الثاني : مرضُ الرشيد المزمن الطويل
كان هذا الخليفة السعيد الذي تتغنى به الليالي . . . . مريضاً بالسرطان ، وكان يهربُ من علته ِ تارة ً إلى الغزو ، وتارة ً إلى الحج ، وثالثة ً إلى التعبّد ، مائة ركعة ٍ كان يصلي كلَّ يوم ، ويتصدق ُ كلَّ صباح ٍ بألف درهم يوزعها بيده أو بأمر ٍ منه .
حجَّ الرشيد تسعَ مرات . تقريبا حجة ٌ كلَّ سنتين .
وقد أبى في آخر ِ حجة ٍ له إلا أن يزحفَ ماشيا ،ً من الرقة إلى مكة َ على قدميه وقد فعلَ ذلك سنة 188 للهجرة.
كان إذا حج َّ يحج ُّ معه مائة ٌ من الفقراء على نفقته .
وإذا لم ُيكتبْ له الحج ّ أرسلَ إلى عرفاتَ 300 رجل ٍ بالنفقة الكاملة وقد ُختم به الخلفاءُ الحجاج فما من خليفة حج من بعده أبدا ً .
ـ وكان الرشيدُ يقسم ليالي أسبوعه ِ: ليلة على الوزراء ورجال ِالدولة يذاكرهم أمورَ الناس ويشاورهم في المهمّ منها .
وليلة للكتاب ، يحاسبهم عما لزم من أمور ِ المسلمين ، وليلة للقواد وأمراء الجند ، يذاكرهم في شؤون الأمصار.
وليلة للعلماء والفقهاء ، وليلة للقراء والعبـّاد .
وليلة ً يخلو فيها بنفسه ، لا يعلم أحد ٌ قرُبَ أو بعُدَ ما يصنع .
ضمن هذا الإطار أين عالم ُ اللذة واللهو ، وضحكات الجواري وعربدات الندماء ؟ .
يقول الدكتور في الختام : لعلنا يجب أن نعرف َ أن امتلاك الجواري في ذلك العصر كان برهان َ ثروة ٍ لا دليلَ مجون ٍ ، فهنَّ مدبرات ُ القصر وهنّ المربيات والخادمات ُ والطابخات والعازفات والمغنيات .
و كان الرشيد حتى في مجلس أنسه ِ يُضرب بينه وبين الخدم والمغنين بستر ٍ يحجبه . وللسمر قواعد ٌ وحرمات .. وقال الجاحظ : من أخبرك أنه رآه يشرب إلا الماء فكــذبـْــهُ .
أليس الرشيد مظلوماً ؟! . حين نتعرفُ عليه من خلال ِ كتاب ٍ ُوضعَ كيداً وتشويها ً لهذا الرجل العظيم ؟!! .
كلكم يذكر قوله المشهور " إلى نقفور كلب الروم " .
جحا :
نقضمُ اسمه كالخبز بالابتسام ِ المرح ،نرددُ نوادرَهُ ، هل ثمة َ من لم يسمعْ بجحا ؟! .
هل هو حقا ذلك الساذج الأحمق الذي نصور، والذي نحملُ عليه كلَّ السذاجة ، أو نلقي عليه كلَّ حماقة ٍ نعرفها ؟! .
فمن هو هذا الرجل ؟.
ثمة َ في التاريخ رجلان يحملان اسم (( جحا)) والاثنان رجلان حقيقيان
والاثنان عُرفا بالنكتة الساخرة .
أولهما عربي من قبيلة فزارة اسمه : ُدجين بن ثابت اليربوعي البصري
ولد في أواخر عهد معاوية بن أبي سفيان .
لم يكن من الحمقى ولا النكرات ، بل كان من الفقهاء وأحد التابعين ،
ومن رواة الحديث ، فقد رأى أنس بن مالك ، وكانت أمهُ خادما ً له .
ويذكرون أن ّ ما يقال فيه مكذوب ٌ عليه ، ولكن كان له جيران ٌ مخنثون ،
يمازحونه ويتزيّدون عليه ، وهم الذين أذاعوا النوادر بين الناس ،
وأذاعوا لقبه ( جُحا ...جُحا , جُحا ) .
كان كيّسا ً ظريفا ً على جانب ٍ حسن ٍ من صفاء السريرة والسماحة ، ومن الفطنة ، والذكاء ، ولكنه على ما يبدو كان يتحامق ُ أحيانا ً عن عمْدٍ
يقتطف النادرة ليثير الضحك ، يقبلُ أن يتعابثَ معه الآخرون ليصفعهم بالنكتة .
ثاني الجحوين تركي سلجوقي اسمه :" نصر الدين خوجة ".
ولد في بعض قرى الأناضول في القرن التاسع الهجري ،
كان أبوه إمام جامع القرية فسار على مسلك أبيه، وانتقل إلى مدينة أقشهر وعمره 30 سنة ، وأمضى فيها خمسين سنة تولى القضاء والتدريس .
عُرفَ بالصلاح والتقوى والزهد من جهة ، وبالجرأة على الحكام والأمراء من جهة .
وقد أنقذت وساطته بلده من التخريب والنهب حين حاصرها( تيمورلنك) الطاغية الأعرج
جحا التركي كان إلى جانب نوادره وليا ً من أولياء الله الصالحين ، ومن أقطاب الطرق الصوفية وأهل الكرامات .
هذان هما الجحوان في التاريخ .
1ــ تابعي عالم صافي السريرة
2ــ قاض وإمام ٌ صار من الأولياء المباركين
أليس جحا بمظلوم آخر ؟ !
************
خليفة لم يسجله التاريخ
إنه عبد الله بن الزبير
الصحابي ابن الصحابي ، وأمه الصحابية أسماء بنت أبي بكر الصديق ، لا تذكره كتب التاريخ إلا أنه بعضُ الثائرين على بني أمية ،
ولكنه كان الخليفة الثامن من خلفاء المسلمين . وقد نُودي بالخلافة وبإمرة ِ المؤمنين حوالي اثنتي عشرة سنة !
ولا تذكره الكتب إلا في اليوم الأخير: حين جاء إلى أمه العمياء أسماء وقال لها : أماه ، لقد خذ لني الناسُ حتى ولداي فماذا أصنع ؟ .
قالت : يا بني إن كنت قاتلت لغير الله فقد هلكتَ ، وأهلكت ، وإن كان لله فلا تسلّـم نفسك .
وكان يومَ صُلبَ في الثالثة ِ والسبعين من عمره . إنه مظلوم آخر .
******************
الهنود الحمر : الشعب الذي أبيد .
نراهم في الأفلام ، أجسادا نحاسية . الحديثُ عنهم حديثٌ عن مأساة 30 مليون إنسان ، أبادتهم البندقية الأوربية والمدفع .
جريمة ٌ اشتركت فيها جميع ُ القوى الأوربية ، وكانت عملية ً من أفجع عمليات الإبادة الجماعية .
****************
كافور التي شوهته القصائد :
مسكين ٌ كافور الإخشيدي ، أبو المسك . نحن نجعل اسمه شتيمة ، لماذا ؟ .
لأن شاعرنا الأثير المتنبي ، هذا البوق الدعائي الرهيب ، أطلق أحرفه كالكلاب تنبحُ وراءه عبر العصور .
وصدقنا تطريبَ تلك القوافي ، وإلى الشيطان بالحقيقة والتاريخ .
اثنتان وعشرون سنة من الحكم الفاضل الطيب ، محتها بعض القصائد ، شوهتها وشوّهتْ وجه َ كافور الحقيقي .
ألبسته القناع البغيض وضاع كافورُ التاريخ ، غاب وراء القناع وبقي لنا كافورُ المتنبي وما أدراك ما كافور المتنبي ؟ .
إنه " أبو النتن " بدل أن يكون أبا المسك .
وحدّثْ ما شئت بعد ذلك ، عن صورته المنكرة تارة ، والكاريكاتورية تارة ً أخرى وحدّثْ ما شئت عن كتلة المخازي التي تحمل اسم " كافور " .
أ مَينا ً وإخلافا ً وغدرا ً وخسة ً
وجبنا ً ؟ أ شخصا ً لُحتَ لي أم مخا زيا ً ؟ .
وحدّثْ عن الصورة :
ومثلك ُيؤتى من بلاد ٍ بعيدة ٍ لــُيضحكَ ربّات ِ الخدور ِ البواكيا .
ـ يفرش المتنبي ملاءة الشتيمة لكافورَ بلسان ٍ تحسَبُه الافعوان َ المسموم .
إني نزلتُ بكاذبين َ ضيفُهمُ عن القرى وعن الترحال ِ محدودُ
من كلّ رخو ِ وكاء ِ البطن ِ منفتق ٍ لا في الرجال ولا النسوان ِ معدودُ
جوعان ُ يأكل زادي ويمسكني لكي ُيقالَ عظيمُ القدر ِ مقصود ُ
صارَ الخصيُّ أمامَ الآبقين َ بها فالحرُّ مُستعبدٌ والعبدُ معبودُ
لا تشتري العبد َ إلا والعصا معه إنّ العبيدَ لأنجاس ٌ منا كيدُ
فهل ضلّ الناسُ حقا ً بهذا الكافور، واكتشفه المتنبي وحده ؟ .
أين كافورُ الحقيقي ، من هذا الكافور الشعري الأسود ؟ .
في الواقع : إن كافورَ المسكين ، كان ضحية َ هذه الإذاعة المجلجلة ِ التي شكلتها قوافي المتنبي عبر العصور .
كافورُ التاريخ شئ ٌ آخر ، مختلفٌ تماما ً عن هذا الكافور الذي خلقه شاعرنا المدلل من أحقاده ِ ، وأنزلَ عليه الصواعق .
بلى : كان كافور عبدا ً أسود َ خصيا ً ، بل كان أيضا قبيح َ الشكل ، ثقيل البدن ، مثقوب َ الشفة ِ السفلى .
ولكنْ : كل ُّ عيوبه تنتهي عند هذا الشكل الجسدي .
كانت بلادُهُ ( مصر والشام الجنوبية ) تابعة ً رسميا ً للعباسيين ،
ولكنهم كانوا ضعفاء في بغداد ، في حين يطمع بمصر أعداؤهم ، الخلفاء الفاطميون الذين
قاموا في المغرب واستطاع كافور بدهائه أن يحتفظ بالعلاقة الطيبة مع الطرفين حتى مات . بعد موته بسنة ٍ واحدة ٍ ، أخذ الفاطميون البلاد .
وإلى هذا شدا الكثير من العلم باللغة والأدب ، وبرع في فنون ِ القتال ِ وانتصرَ مرات ،
وهكذا ارتضى الناس طريقته وارتضوه قرابة ربع ِ قرن .
وكان المتنبي أكثرَ صدقا ً مع التاريخ حين قال له قبل غضبته الكبرى :
أجفل َ الناسُ عن طريق أبي المسك وذلت ْ له رقابُ العباد ِ
هذه دولة المكارم والرأفة ِ والمسجد ِ والندى والأيادي
وكان الرجل ثانيا ً كثيرَ التواضع ، لم تأخذه العزة ُ بالحكم ِ مرة .
ذكروا بأنه لحقه أيام بؤسه جرب ٌ كثير ، حتى طرده صاحبـُه ، ومرّ بالسوق ِ على طباخ وسأله بعض َ الطعام ، فضربه بالمغرفة الحارة على يده حتى احترقت وغشي عليه ، وأخذه بعض ُ أهل ِ الإحسان ِ فداوى حروقه .
ويقولون : إنه كلما عزّ تْ عليه نفسُـه ، ذكر ذلك لنفسه وقال : اذكر ضربَ المغرفة
وربما ذهب إلى السوق ، وسجد شكرا ً لله ! .
وقد قضى حكـمَــه كلـَّـه لم يحملْ لقبا ً من ألقاب الملك ، اكتفى بلقب الأستاذ
وثالثا : كان الرجل كثيرَ التدين ِ ، كثيرَ الصدقات ِ ، كثيرَ الاحترام ِلآل ِ البيت ِ ،عارفاً
بالناس وبأساليب احتوائهم ، بين اللين والشدة ، وبين العطاء والحلم والغضب .
وقعت مِقرعته مرة ً في الطريق فناوله إياها أحد ُ العلويين فكاد يبكي .....
وقال : ما كنتُ أظنّ أنّ الزمانَ يبلغني حتى تفعل بي أنت مثلَ هذا ! .
فلما بلغ قصرَهُ ، أعطى ذلك العلويَّ ما في الموكب من متاع ومال ، وكانت قيمته تزيدُ على خمسة َ عشرَ ألفَ دينار .
ذكروا أنَّ السماط َ المفتوح في بلاطه كان يذبح يوميا ً مائتين وخمسينَ خروفا ً، ومثلـَه من الإوزّ ، وخمسمائة َ دجاجة ٍ ، وألف َ طير ٍ من الحمام ، عدا عن مائتين وخمسين قربة ٍ من الشراب ، ومئات ِ الصحون ِ من الحلوى .
وقالوا : إنه كان يرسل كلَّ ليلة ِ عيد ٍ حِملَ بغل ٍ من المال في صرر ، على كلّ صرة ٍ اسمُ من جُعلتْ له ، من بين ِ عالم ٍ ، وزاهد ٍ ، وفقير ٍ ، ومحتاج ٍمستور ، ويمرغ ُ وجهَـه في السجود قائلا : اللهم لا تسلط ْ عليَّ مخلوقا ً .
وما كان كافورُ ينتظرُ أنْ يتسلط َ عليه المتنبي ، فيهدم َ اسمَـه في العصور ِ ،
سألوهُ مرة ً : لم لا يُرضي هذا الشاعرَ ببعض ِ الإمارة ؟ . فقال : يا قوم !! رجلٌ ادعى النبوة مع خير البشر ( صلى الله عليه وسلم) كيف يوليه كافورُ إمارة ؟؟!.. ودفع كافور ثمنَ هذا الموقف غاليا جدا
مظلوم آخر ........ هو كافور
أرجو أن ينال هذا العرض إعجاب الأخوة والأصدقاء
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته